26 - 06 - 2024

تحطيم الآلهة | محمود السعدني.. "التهجيص" أدب!

تحطيم الآلهة | محمود السعدني..

عرف المصريون القدامى والمعاصرون في ثقافتهم الشعبية، على مر العصور، ظاهرة "صناعة الآلهة". صحيح أنهم لم يصنعوا هذه الآلهة المزعومة من العجوة، ثم يأكلوها إذا جاعوا كما فعل كُفّار قريش، لكنهم صنعوها من الرخام والجرانيت في عهد الفراعنة، ومن الأسماء المشهورة الرنانّة في عهود تالية، سواء في السياسة، أو الثقافة، أو الصحافة.

ومن بين تلك الآلهة المزيّفة، التي لا يجوز المساس بها، أو حتى مجرد الاقتراب من مقامها العالي بمنطق أنك "إن اقتربت احترقت"، خُد عندك مثلا: سعد زغلول، وأحمد فؤاد نجم، ونجيب محفوظ، وزكي جمعة! 

وموضوع هذه الحلقة من سلسلة "تحطيم الآلهة" التي سوف ننشرها تباعا، إن شاء الله، هو الكاتب الراحل محمود السعدني، الذي صدر له مؤخرا في "معرض الكتاب" 2024 نحو 13 عنوانا جديدا، لم تر النور خلال حياته الحافلة.

سمّى السعدني نفسه في كُتبه "الولد الشقي"، وكان له جولات وصولات، قابل خلالها رؤساء ومشاهير العصر، ومنهم حسني مبارك وصدام حسين ومعمر القذافي وعبد الحليم حافظ، وغيرهم.

والحقيقة المؤسفة أن كاتب هذه السطور كان ذات يوم من المعجبين بـ "السعدني"، حتى اكتشفت أنه رائد "أدب التهجيص" في العالم العربي، وأن معظم ما جاء في كتبه إن هو إلا محض أكاذيب وأوهام، اخترعها السعدني تحت تأثير مخدر الحشيش، ومجرد أساطير ابتكرها خياله الواسع إرضاءً لمعجبيه وحوارييه، ومن بينهم عادل إمام وبلال فضل وصلاح السعدني، وسواهم، ممن كانوا يلتفون حوله في كل مكان، بما في ذلك "نادي الصحفيين" على نيل الجيزة، ينقلون عنه كل ما يتفوه به من عبارات وإفيّهات، ويدوّنوها كأنه بوذا عليه السلام!

الشاعر "قاتل القطط"

حكى السعدني في كتابه "مسافر على الرصيف" أن شاعرا رومانسيا مشهورا غنى له كبار المطربين، وعلى رأسهم محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، كان يعاني من حالات نفسية غريبة تأتي له على شكل نوبات حادة، قد يخلع خلالها ثوب الشاعر الرومانسي، ويرتدي ثوب القاتل!

ومن ذلك أن هذا الشاعر، الذي اشتهر خلال الستينيات من القرن الماضي، وله ابنة مذيعة معروفة في الإذاعة المصرية، كان يستقبل في منزله الكاتب "وديع فلسطين" لقراءة الشعر باللغة الإنجليزية، حيث كان شاعرنا يسعى إلى تعلّم هذه اللغة وقتها، للترقي في السلك الوظيفي. 

وحسب رواية السعدني الواردة نصا في الكتاب: إذ هما يقرآن معا ذات ليلة شيئا من أبيات الشاعر البريطاني أوسكار وايلد، ظهرت قطة صغيرة على باب الغرفة، وراحت تموء في استعطاف، فما كان من الشاعر، الذي شوهد منذ لحظات حالما وسارحا في شواشي الشعر، ما كان منه إلاّ أن أخرج طبنجة (مسدسا) من درج المكتب، وشدّ الأجزاء، وأطلق على القطة المسكينة رصاصة واحدة في الرأس، فأرداها صريعة، ثم وضع المسدس في الدرج بهدوء، وكأن شيئا لم يكن!

وفزع "وديع" بشدة مما حدث، وكاد يُغمى عليه من الخضّة، مستنكرا ما فعله مضيفه الذي كان منذ لحظات أرق من نسمة الجنوب، فهب "وديع" واقفا وقال صاحبه مرعوبا: ليه عملت كده يا أستاذ؟

قال له الشاعر: كان لازم أعمل كده عشان تبطّل "وداعة"!

والطريف أن صحيفة "الحياة" اللبنانية التي كانت تصدر في لندن، سألت وديع فلسطين، في حوار طويل معه، عن هذه الواقعة فأنكرها تماما، وأكد أنها من "بنات خيال السعدني"، وأنها لم تحدث على الإطلاق، بل هي مجرد "أكذوبة أدبية" إن صح التعبير!

هذا، ناهيك عن أنه كان يسخر من ذلك الشاعر، الذي كان يجلس بجواره على "قهوة عبد الله" في ميدان الجيزة، آنذاك، ولا يُعير السعدني أي اهتمام، لذلك زعم الأخير أنه - أي الشاعر- يتعاطى الأفيون، ويظل جالسا بالساعات يتأمل المارة في الشارع، وكأنه يراهم، وهو لا يراهم!

والحقيقة أن ما حكاه السعدني عن الشاعر "م. ح. إ"، كان من باب التشنيع، وهي أمور قد يجوز اختراعها في جلسات التحشيش على سبيل الدعابة، لكن كتابتها ونشرها في كتاب أمر غير جائز بالمرة!

والطريف أن السعدني اعترف، غير مرة، أنه وصديقه الشاعر الغريب كامل الشناوي كانا يعطيان رواد "قهوة عبد الله" دروسا مجانية في "فن التشنيع"!

"مأساة السعدني" وملاهيه

إذا كان محمود السعدني قد حوّل التهجيص إلى أدب، وكتب خلال حياته عشرات الكتب ومئات المقالات عن وقائع ملفقة غالبا، فقد أفتى الرجل أيضا بغير علم في أشياء أخرى، ما كان له أن يفتي فيها أبدا!

ومن ذلك أيضا حديثه المستفيض عن القارئ الشيخ عنتر مسلّم، أحد أهم القرّاء المصريين، والذي أصدر عنه كاتب السطور كتابا بعنوان "الكروان الممنوع".

في فصل بعنوان "مأساة الشيخ عنتر"، يقول السعدني في كتابه "ألحان السماء": "إن المأساة الحقيقية في هذا العصر هي مأساة الشيخ مسلّم عنتر (هكذا!)، فهو صاحب صوت جميل للغاية، وله طريقة فذة في الأداء، واستطاع أن يفرض نفسه بموهبته على إذاعات العالم الإسلامي والعالم العربي، وكان صوته مادة ثابتة في الإذاعة الإيرانية (..) إنه أشبه بنبتة غريبة، فقد استطاع أن ينمو بموهبته وحدها، دون دراسة أو معرفة معتبرة بعلم القراءات، ودون أن يتدرب على يد شيخ يلقنه أصول القراءة، كان صوته هو السلاح الوحيد في المعركة، وهو سلاح فعّال بلا أدنى شك، ولكن الشيخ صاحب الصوت الجميل كان مجردا من التروس والدروع، وهي أدوات ضرورية إذا أراد المقاتل أن يواصل المعركة حتى النهاية".

يضيف الكاتب: "هنا كانت مأساة الشيخ الذي تصوّر أن القراءة عملية اجتهادية، لا تحتاج إلى ضوابط. وبالتأكيد لم يكن الشيخ (مسلم عنتر) يدرك أن دراسة علم القراءات ضرورية للقارئ. وربما عرف من بعض محبيه أن الشيخ محمد رفعت كان يقرأ بالقراءات السبع، وأن القراءات السبع تعني أن يقرأ الآية الواحدة سبع مرات، كل مرة بطريقة مختلفة. لم يعرف الشيخ أن علم القراءات يسمح للقارئ بالتصرف، ولكن في حدود مفروضة، لا يمكن تجاوزها أو الخروج عنها".

تناول السعدني قضية مسلّم بشكل أقرب للتعريض والسخرية، منه إلى محاولة إنصاف الشيخ وسط أهل زمانه الغاضبين عليه. 

ومع أن الكاتب كان إبّان شهرة الشيخ منفيا خارج مصر لأسباب سياسية، إلا أنه أورد عن مسلّم في هذا الفصل الكثير من المعلومات أكثرها مغلوط، كما سيبيّن لاحقاً، لكونه استقى معظم هذه المعلومات سماعيّا، فلم يسمع السعدني الشيخ جيدا، حتى إنه أخطأ في ذكر اسمه 3 مرات، فأطلق عليه في كل مرة اسم "مسلم عنتر".

هذا يعني أن السعدني لم يكن يعرف ما يكتب عنه، وأن مسألة نقد القرّاء كانت بالنسبة له سماعية، مثل ثقافته، ناهيك عن أن معرفته بعلم القراءات، ليست أفضل من معرفة "خالته بهانة" باللغة الصينية، والتعبير له، فليس صحيحاً بالمرة أن "القراءات السبع تعني أن يقرأ الآية الواحدة سبع مرات، كل مرة بطريقة مختلفة". والصحيح، الذي يعرفه أي تلميذ إعدادية أزهرية، أن القراءات كلها تتفق في طريقة نطق آيات كاملة، والاختلافات بين أوجه القراءة قد تكون في آية أو كلمة واحدة فقط، على مدار سورة كاملة، وقد لا تكون هناك أي اختلافات.

وهذا غيض من فيض أكاذيب السعدني وتلفيقاته، التي قد نتطرق إليها في مقال آخر.
--------------------------
بقلم: طايع الديب

مقالات اخرى للكاتب

تحطيم الآلهة | محمود السعدني..





اعلان